عام على سقوط حسينة.. مئات القتلى ونداءات دولية لوقف انتهاكات حقوق الإنسان والإفلات من العقاب

عام على سقوط حسينة.. مئات القتلى ونداءات دولية لوقف انتهاكات حقوق الإنسان والإفلات من العقاب
احتجاجات بنغلاديش- أرشيف

تعيش بنغلاديش منذ أكثر من عام على إيقاع أزمة إنسانية وسياسية مركبة خلفتها موجة العنف التي اجتاحت البلاد صيف عام 2024، حين خرجت احتجاجات طلابية وشعبية واسعة ضد حكومة الشيخة حسينة واجد التي استمرت في الحكم منذ عام 2009 قبل أن تجبرها التظاهرات على اللجوء إلى الهند، لكن ما تلا سقوطها لم يكن هدوءًا، بل تصاعدت تداعيات دامية خلّفت مئات القتلى وآلاف الجرحى، وطرحت مجددًا أسئلة حادة حول مستقبل العدالة وحقوق الإنسان في البلاد.

أرقام موجعة تكشف عمق الجرح

وفقًا لتقرير حديث ذكرت "هيومن رايتس ووتش" أن منظمة أودهيكار، أبرز المنظمات الحقوقية في بنغلاديش، أفادت أن ما لا يقل عن 281 شخصًا لقوا مصرعهم في أعمال العنف السياسي منذ أغسطس 2024 وحتى سبتمبر 2025، منهم أربعون ضحية لإعدامات خارج نطاق القضاء، و153 شخصًا قتلوا في أعمال سحل أو ضرب جماعي، وتؤكد المنظمة أن العدد الحقيقي قد يكون أعلى من ذلك بكثير، في ظل ضعف الرقابة القضائية وغياب التحقيقات المستقلة في كثير من الحالات.

وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت في وقت سابق أن حصيلة القتلى في ذروة الاحتجاجات تجاوزت 1400 شخص، معظمهم من المدنيين، وهو رقم يعكس حجم الانهيار الأمني والمؤسسي الذي صاحب سقوط واحدة من أطول الحكومات بقاءً في تاريخ البلاد الحديث.

إرث القمع وثقافة الإفلات من العقاب

تركت حكومة الشيخة حسينة وراءها سجلًا مثقلًا بالانتهاكات، بحسب منظمات حقوقية دولية، حيث اتُّهمت باستخدام الأجهزة الأمنية لقمع المعارضين وإسكات الأصوات المستقلة عبر الاعتقالات والاختفاءات القسرية والتعذيب، وأكدت هيومن رايتس ووتش في تقريرها لعام 2025 أن هذه السياسات خلقت مناخًا من الخوف والإفلات من العقاب، وجعلت من ممارسة العمل السياسي أو الصحفي مغامرة محفوفة بالمخاطر.

ورغم التغيير السياسي الذي شهدته البلاد وتشكيل حكومة مؤقتة برئاسة محمد يونس الحائز جائزة نوبل للسلام، فإن إرث القمع لم يُمحَ بعد، ويقول مدير منظمة أودهيكار نصر الدين إلان إن الوضع تحسن نسبيًا بعد سقوط الحكومة السابقة، إذ لم تُسجل حالات اختفاء قسري جديدة، غير أن الانتهاكات ما زالت حاضرة في شكل عنف مفرط أثناء الاحتجاز واعتداءات على المدنيين بدافع الشبهات السياسية.

موقف الأمم المتحدة ومفوضية حقوق الإنسان

الأمم المتحدة، عبر مفوضية حقوق الإنسان، أعربت عن قلق بالغ حيال التقارير الواردة من بنغلاديش منذ بداية الأزمة، وفي بيان صدر عن المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك أواخر أغسطس 2024، دعت المفوضية السلطات البنغلادشية إلى فتح تحقيقات مستقلة وشفافة حول مقتل المدنيين، وأكدت أن استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين يشكل انتهاكًا صارخًا للمعايير الدولية.

وشددت المفوضية على ضرورة وضع حد للإفلات من العقاب، محذرة من أن غياب المساءلة يغذي دوامة جديدة من العنف ويقوّض الثقة في مؤسسات العدالة، كما أشار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى أن استقرار بنغلاديش لا يمكن تحقيقه إلا من خلال احترام سيادة القانون وضمان العدالة للضحايا، داعيًا جميع الأطراف إلى حوار سياسي شامل يفضي إلى انتخابات نزيهة.

كذلك عبّرت المقررة الخاصة المعنية بحالات الإعدام خارج القضاء عن قلقها من التقارير التي تفيد بوجود نمط ممنهج من عمليات التصفية، وطالبت الحكومة المؤقتة بإجراء تحقيق فوري وإشراك جهات دولية مختصة في عملية التقصي، لتفادي تكرار الانتهاكات التي وثقت في السنوات السابقة.

صدى المنظمات الحقوقية الدولية

منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر في أكتوبر 2024 وصفت حملة القمع التي سبقت سقوط حكومة حسينة بأنها واحدة من أكثر موجات العنف وحشية في تاريخ البلاد، مؤكدة أن عشرات القتلى لم يتم التحقيق في مقتلهم حتى الآن، وطالبت المنظمة بإرسال بعثة تحقيق دولية بإشراف مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، داعية المجتمع الدولي إلى عدم الاكتفاء ببيانات الإدانة الرمزية.

أما هيومن رايتس ووتش فسلطت الضوء على استمرار العنف من قبل قوات الشرطة رغم التغيير السياسي، مشيرة إلى أن الإصلاح الحقيقي لن يتحقق إلا بمساءلة المسؤولين عن الجرائم السابقة، ومراجعة القوانين التي استخدمت لتكميم الأفواه مثل قانون الأمن الرقمي الذي طالبت بإلغائه أو تعديله جذريًا.

وفي السياق ذاته، دعت الشبكة الآسيوية لمراقبة حقوق الإنسان إلى إنشاء لجنة وطنية للحقيقة والمصالحة على غرار التجارب التي شهدتها دول أخرى عانت من انتهاكات جسيمة، مشيرة إلى أن العدالة الانتقالية تمثل مدخلًا ضروريًا لبناء الثقة وإعادة ترميم النسيج الاجتماعي الذي تمزق بفعل العنف والانقسام السياسي.

تحديات أمام الحكومة المؤقتة

منذ تولي الحكومة المؤقتة بقيادة محمد يونس مهامها في منتصف عام 2024، وضعت على جدول أعمالها إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وضمان حياد القضاء وتنظيم انتخابات عامة في فبراير المقبل، غير أن الطريق نحو الاستقرار ما زال محفوفًا بالعقبات. فالعنف السياسي لم ينتهِ تمامًا، والانقسام المجتمعي بين مؤيدي الحزب الحاكم السابق ومعارضيه لا يزال يهدد بعودة الفوضى.

ويشير مراقبون حقوقيون إلى أن الحكومة المؤقتة مطالبة بخطوات ملموسة لاستعادة الثقة، منها ضمان استقلال القضاء، ووقف ممارسات الاعتقال التعسفي، والإفراج عن جميع المحتجزين على خلفيات سياسية، كما أن تفعيل دور المجتمع المدني والسماح بحرية الإعلام يشكلان اختبارًا حقيقيًا لالتزامها بالإصلاح.

العدالة الغائبة وآمال الضحايا

عائلات الضحايا ما زالت تنتظر العدالة التي طال أمدها، فالكثير منهم فقدوا أبناءهم خلال المظاهرات أو في مراكز الاحتجاز، دون أن يتمكنوا من معرفة مصيرهم أو محاسبة الجناة. وتقول منظمات المجتمع المدني إن التعويضات المادية لا يمكن أن تحل محل العدالة، وإن ما تحتاجه البلاد حقًا هو كسر دائرة الصمت ومحاسبة كل من أمر أو شارك أو تستر على الانتهاكات.

ويرى خبراء في القانون الدولي أن بنغلاديش تمتلك الإطار التشريعي الكافي لملاحقة الجرائم، لكنها تفتقر إلى الإرادة السياسية لتفعيله، ما يجعل من المراقبة الدولية ضرورة ملحة لحماية حقوق الإنسان وتعزيز المساءلة.

رغم كل الجراح، فإن بنغلاديش تقف اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء مؤسساتها على أسس من العدالة والشفافية، فالمحاسبة ليست مطلبًا أخلاقيًا فحسب، بل شرط أساسي لبناء سلام مستدام، ونجاح الحكومة المؤقتة في إجراء انتخابات نزيهة وتطبيق توصيات الأمم المتحدة سيحدد ما إذا كانت البلاد ستخرج حقًا من دوامة العنف إلى أفق جديد من الاستقرار والحرية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية